عودة مرة أخري إلي موضوع الغاز الطبيعي.. ولكن من باب «دمياط».. أو بمعني أدق عبر صفقة «شركة أجريوم» الكندية، التي تنشئ مصنعاً جديداً للأسمدة هناك.. وهي الصفقة التي أثارت غضب أهالي المحافظة لخطورة المصنع علي البيئة.. وإذا كانت الحكومة قد أكدت مراراً أن الدراسات العلمية أثبتت عدم صحة ذلك.. فإن لهذا الملف أوراقاً أخري تطرح العديد من التساؤلات حول هذا المشروع، بما يقضي مراجعته من الحكومة قبل أن يضاف إلي مشروعات أخري، تخصم ولا تضيف، وتستنزف أكثر مما تبني.
أتحدث هنا عن البعد الاقتصادي للاتفاق، وليس البيئي.. والهدف هو مساعدة الحكومة علي الإصلاح، لاسيما أن الدكتور أحمد نظيف، رئيس الوزراء، أصدر عدة قرارات سابقة بتعديل اتفاقيات لمصلحة مصر اقتصادياً.. فالثابت أن عقد «أجريوم»، الذي يقضي بإمداد المصنع بـ١٢٠ مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يومياً، تم إبرامه في أبريل ٢٠٠٧.. فما معني ذلك..؟!..
معني ذلك، بمنتهي البساطة، أن هذه الخطوة جاءت بعد أن أدركت مصر أن عقود الغاز السابقة كانت مجحفة في حقها، سواء في السعر أو في الكمية، إذن فليس منطقياً أن تمنح الحكومة لشركة «أجريوم» الغاز بسعر ١.٢ دولار للمليون وحدة حرارية، بينما يتكلف إنتاجه ٢.٦٥ دولار، وليس منطقياً أيضاً أن تقدم الحكومة الغاز لشركة كندية بسعر «مدعوم»، بينما تعمل هذه الشركة في المنطقة الحرة، وتصدر إنتاجها للخارج بالأسعار العالمية، أي أنها لا تدفع ضرائب للخزانة المصرية، وتستهلك كميات ضخمة من الغاز، ولا توفر فرص عمل كبيرة.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، وإنما ينص العقد المبرم بين الجانبين علي بنود أكثر إجحافاً للجانب المصري، منها أن سعر الغاز سيظل ثابتاً لمدة ٥ سنوات، ثم يتحرك بزيادة «سنت واحد» للمليون وحدة حرارية مع كل دولار زيادة في أسعار بيع «اليوريا»، والمفارقة الخيالية أن العقد ينص علي أن «سعر (اليوريا) يخضع لعقد التصدير وليس السعر العالمي»، وتزداد المفارقة جنوناً، إذا عرفنا أن شركة «أجريوم مصر»، سوف تبيع أسمدة اليوريا لشركة «أجريوم إنترناشيونال»، أي أن «أجريوم» تبيع لـ«أجريوم»، وبالتالي فهي صاحبة الحق في تحديد سعر البيع - الذي تربط عليه أسعار الغاز المصري - لأنها تبيع لنفسها «تقريباً».
والسؤال: كيف تبرم الحكومة هذا العقد في أبريل ٢٠٠٧، بينما تقول إنها أبرمت العقود في السنوات السابقة، في ظل انخفاض أسعار الغاز، بل إن التقارير الحكومية ذاتها كانت قد حذرت من وجود عجز في إمدادات الغاز للاستهلاك المحلي، وكيف ترفع الحكومة سعر الغاز لمصانع الأسمدة المحلية، التي تبيع إنتاجها محلياً، وتدفع ضرائب للدولة بـ١.٧ دولار للمليون وحدة حرارية، وسوف ترتفع إلي ٢.٦٥ دولار في العام المقبل، بينما تبرم هذا العقد المجحف مع الطرف الكندي، الذي سيبيع «اليوريا» بسعر يتجاوز الـ٤٠٠ دولار للطن.
وبحسبة بسيطة سوف نصل إلي التالي: تكلفة إنتاج طن «اليوريا» لا تتجاوز ١٣٠ دولاراً للطن، وستبيعه «أجريوم» بـ٤٠٠ دولار للطن.. مصر ستعاني خلال السنوات المقبلة نقصاً في إمدادات الغاز الطبيعي، ومع ذلك تمنحه بأسعار مدعومة لمصانع عالمية لا تضيف للاقتصاد المصري شيئاً.
تذكرت - وأنا أجري هذه الحسابات - القرار السعودي بوقف زراعة القمح، رغم أزمة الغذاء العالمية، ورغم أنه يذهب للمواطن السعودي نفسه، وسبب القرار أن المياه التي تستهلكها زراعات القمح أكثر أهمية من المحصول، الذي يمكن استيراده من الخارج.. وثمة فارق كبير بين المياه التي يمكن تعويضها بتحلية مياه البحر، والغاز الطبيعي الذي ينضب، وليس له بديل.
غير أن المفارقة الأكثر وجعاً، هي أن الغاز المصري يذهب بسخاء حاتمي إلي دول «شقيقة»، مثل إسبانيا وفرنسا وأمريكا والأردن وسوريا وإسرائيل، ثم كندا، بينما لم يصل حتي الآن إلي الدولة الصديقة «أسيوط».. نعم هذه حقيقة.. فوزير خارجية «أسيوط» لم ينشط بعد في التحرك لدي وزير خارجية «مصر»، لحصول بلاده علي الغاز «المصري» بأي سعر..
ويبدو أن العلاقات المصرية مع دولة «أسيوط الصديقة»، أقل أهمية من علاقاتها مع «الدول الشقيقة» الأخري!