أدي التحول الذي جري في عهد السادات في السياسة الاقتصادية والعربية والخارجية إلي انقسام المثقفين المصريين إلي ثلاثة أقسام، كان هناك من المثقفين من وجد بغيته فيما أحدثه السادات من انفتاح علي الغرب وتصالح مع إسرائيل.
فهؤلاء لم يتعاطفوا مع عبدالناصر قط، في إغلاقه الأبواب في وجه منتجات الغرب من السلع والثقافة، ولا تحمسوا لانتصاره للقضية الفلسطينية، ولا شعروا بانتساب قوي للعروبة، بل فضّلوا أن تلتفت مصر لحالها وتصلح أمورها وتنفق أموالها في تنمية اقتصادها. كان علي رأس هؤلاء بعض المثقفين الكبار الذين لزموا الصمت طوال عهد عبدالناصر أو كتبوا قصصاً رمزية أو مقالات في خارج الموضوع طلباً للأمان.
فلما مات عبدالناصر كتبوا ما معناه أنه طوال عهده كانوا «فاقدي الوعي» والآن عاد وعيهم إليهم، أو رفعوا شعار «مصر أولاً» ونشط بعضهم في الكتابة للمسرح بعد حرمان طويل، أو ساعدوا السادات في كتابة سيرته الذاتية ورافقوه في نزهاته، وارتاح السادات إلي مجلسهم بعد ما عاناه في ظل عبدالناصر من كبت طويل.
هؤلاء لم يخونوا أنفسهم ولم يتنكروا لماضيهم، فما أقل ما كتبوه لتأييد عبدالناصر، وعندما فعلوا ذلك كان من الواضح للجميع أنهم فعلوه خوفاً من بطش عبدالناصر لا حباً فيه.
ولكن هناك قسماً آخر من المثقفين لم يتنكروا بدورهم لماضيهم، ولم يخونوا أنفسهم، إذ استمروا يدافعون عن سياسات عبدالناصر بعد موته، واشتبكوا مع الساداتيين في عراك عنيف، سمح به السادات سنوات طويلة بما أتاحه من حريات لم تكن متاحة من قبل.
فاشتبك الاقتصاديون المنادون بحماية الاقتصاد مع الاقتصاديين الموالين للسادات في مؤتمرات سنوية حامية، واشتبك المعارضون للصلح مع إسرائيل مع من رفعوا شعار السلام وأيدوا زيارة السادات للقدس، ووقف المؤمنون بالقومية العربية يهاجمون اتجاه السادات الجديد للتقليل من شأن الدول العربية الأخري بل الاستهزاء بها، وأزعجهم بشدة ما أبداه السادات من انهيار نفسي أمام الولايات المتحدة وما أبداه من استعداد لتلبية كل طلباتها.
هكذا شهدت جريدة «الأهالي»، التي بدأت في الصدور في عهد السادات، أمجد أيامها تحت رئاسة رجال من نوع محمد عودة وحسين عبدالرازق، وقرأنا فيها مقالات رائعة لكتاب موهوبين ومعارضين للسادات كعبدالعظيم أنيس وصلاح عيسي وفيليب جلاب، ونشرت جريدة «الشعب» (التي بدأت في الصدور أيضاً في عهد السادات) مقالات ممتازة، شكلاً وموضوعاً لرجال مثل فتحي رضوان وحلمي مراد، واحتفظت «روز اليوسف» باستقلالها فنشرت أيضاً مقالات ضد سياسة السادات.
بل استمر كتاب مرموقون يكتبون في الجرائد والمجلات المعبرة عن سياسة الحكومة، مقالات ضد هذه السياسة، مثل أحمد بهاء الدين وصلاح حافظ...إلخ، هؤلاء جميعاً لم يتنكروا لشيء كتبوه في عهد عبدالناصر، ولم يخونوا اعتقادهم بضرورة العمل من أجل الاستقلال الوطني، اقتصادياً وسياسياً، ومن أجل تحقيق آمال الفلسطينيين، وضم صفوف العرب.
ولكن كان هناك أيضاً ذلك النوع الثالث من المثقفين المستعدين للعمل في ظل أي عهد تحقيقاً لمكاسب خاصة، وهؤلاء، وإن كانوا موجودين بالطبع في عهد عبدالناصر أيضاً، فقد تكاثروا في عهد السادات، عندما وجدوا المكاسب أكبر وأشد جاذبية، بما أتاحه الانفتاح من فرص لم تكن موجودة من قبل، للانغماس في الترف والتمتع بالحياة.
هكذا وجدنا ماركسياً قديماً وناصرياً متحمساً يكتب في محاولة التنظير «لمدرسة السادات السياسية» بعد أن كان في عهد عبدالناصر رئيساً لتحرير مجلة شهرية تدافع عن عكس ذلك بالضبط. ووجدنا اقتصاديين سبق لهم تأليف كتب في مدح الاشتراكية العربية يكتبون المقالات في مدح الانفتاح، وأساتذة جامعيين كانوا أعضاء نشطين في منظمة الشباب التي أنشأها عبدالناصر لترسيخ الإيمان بالاشتراكية بين الشباب، يعرضون خدماتهم علي السادات للدفاع عن سياسته، أو كانوا من قبل يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، ثم فوجئوا بزيارة السادات للقدس في ١٩٧٧ وتصالحه مع الإسرائيليين إلي حد إلقائه خطاباً في الكنيست، فاحتاروا فيما يفعلون، وأخذ بعضهم يكتب مقالات يمكن أن تفسر علي أنها مع الزيارة، وكذلك علي أنها ضدها، وفضّل أحدهم أن يكتب مقالاً ذكر فيه أن لزيارة السادات لإسرائيل عشر مزايا وعشرة عيوب.
مع كل هذا اتسمت الحياة الثقافية في عهد السادات بالحيوية وشدة الجدل بين الآراء المختلفة، واستمرت هذه الحيوية خلال السنوات الأولي من عهد مبارك، وأظن أن سبب هذه الحيوية هو أن الأمل كان لايزال قائماً في إعادة الأمور إلي نصابها، وإجبار النظام علي النكوص عن الردة التي اتخذها السادات في السياسة الاقتصادية وفي علاقاته الخارجية والعربية ومع إسرائيل، وكأن طائفة كبيرة من المثقفين المصريين لم يصدقوا أن من الممكن أن تنقلب السياسة المصرية علي هذا النحو رأساً علي عقب، فاستمروا يدافعون عن السياسات التي دشنها عبدالناصر حتي وضعهم السادات جميعاً في السجن في سبتمبر ١٩٨١.
***
بعد فترة قصيرة من التفاؤل في أوائل عهد مبارك أصاب الكثيرين من المثقفين المصريين شعور بالإحباط زادت قوته شيئاً فشيئاً خلال العشرين سنة الأخيرة، ولكن اتسم عهد مبارك أيضاً ببعض السمات التي سمحت لصور جديدة من الفساد بأن تترعرع بين المثقفين.
فمن ناحية، ظهر مع مرور سنة بعد أخري أن سياسة العهد الجديد لن تختلف في أي شيء مهم عن السياسة التي دشنها السادات، سواء في الاقتصاد أو في العلاقة مع العرب أو مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. نعم، كانت اللهجة أهدأ، واختفت النبرة الحادة التي اتسم بها أسلوب السادات، والتي كانت تلائم تدشين سياسة جديدة،
أما الآن فكل شيء يسير في نفس الطريق دون تشنج ودون صياح. الانفتاح مستمر، بل بدرجة أكثر فجاجة ولكن دون محاولة للتبرير أو الدفاع. وإهمال القطاع العام ثم بيعه يسير بمعدل أسرع ولكن في صمت. والعلاقة مع البلاد العربية الأخري بقيت فاترة ولكن دون توجيه الإهانات. والتبعية للولايات المتحدة استمرت واقترنت بإذلال أكبر ومهانة أشد، ولكن دون تسمية الساسة الأمريكيين بالأصدقاء، كما كان يفعل السادات، ودون مبالغة في الاحتفاء بهم. أما إسرائيل فظلت طلباتها مجابة، وعقدت معها اتفاقيات اقتصادية بالغة الأهمية، وتمهد الطريق لتبعية الاقتصاد المصري لها، ولكن هذه الاتفاقيات تعقد بسرعة ودون مناقشة، وكأنها اتفاقيات سرية، ويتم توطيد العلاقات بين مصر وإسرائيل دون أن تتم زيارة من الرئيس المصري لإسرائيل تطبل لها وسائل الإعلام وتزمر.
في مناخ كهذا كان لابد أن يسود اليأس من حدوث التغيير المأمول. وفي ظل هذه الدرجة من اليأس يبرز نوع جديد من المثقفين القناصين للفرص، يائسون هم أيضاً كغيرهم، فيما يتعلق بالمستقبل المصري، ولكنهم أبعد ما يكونون عن اليأس فيما يتعلق بتحسين أحوالهم الشخصية. فحين يختفي مشروع للنهضة يوحد الجميع ويمنح فرصة للموهوبين من المثقفين للتألق، لا يبقي إلا المشروعات الخاصة التي تجلب للمثقف وأسرته الثراء وبحبوحة العيش. بعبارة أخري: إذا كانت الموهبة لم تعد مطلوبة لتحقيق نهضة الأمة، فلا مفر من توجيهها لتحقيق الثراء.
ولكن هذا الغياب لمشروع للنهضة يثير الحماس بين الناس ويوحدهم، لم يكن العامل الوحيد لإفساد المناخ الثقافي في مصر. فقد تضافر هذا مع عوامل أخري خلال العشرين عاماً الأخيرة لإحداث مزيد من التدهور.
ففي الوقت الذي ضعفت فيه الآمال في حدوث نهضة عامة، زاد انفتاح مصر علي العالم، فتدفقت عليها السلع والاستثمارات الأجنبية، وانفتح بشدة الإعلام المصري علي المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية الخارجية، من إعلانات عن السلع إلي التعرف علي أنماط جديدة للمعيشة أعلي بكثير من المتاح في مصر. سال لعاب الناس في مصر، خلال العقدين الماضيين (بما في ذلك لعاب المثقفين) شوقاً للوصول إلي هذه المستويات العالية من المعيشة، مما قوي الدافع إلي الخروج علي مقتضيات الواجب والأخلاق. وإذ حدث هذا في ظل تراخي معدل النمو الاقتصادي، وإنكماش فرص الهجرة إلي الخليج، أصبح التنافس يجري علي نصيب أكبر من كعكة ثابتة الحجم (أو تكاد أن تكون ثابتة الحجم)، مما يقوي بدوره الدافع إلي الفساد.
يمكن التعبير عن ذلك بشكل آخر، بالإشارة إلي تأثير ارتفاع معدل «العولمة» علي مجتمع ضعيف الهمة، فاقد البوصلة، ينمو اقتصاده ببطء، مع تعريض الناس لإغراءات أكبر. لابد في مثل هذا المناخ أن ينمو الفساد، بما في ذلك الفساد بين صفوف المثقفين، بل ليس من المستغرب أيضاً أن يتسرب الفساد إلي الخطاب الديني نفسه، شكلاً ومضموناً.
هكذا رأينا بعض الجالسين علي قمة المؤسسة الدينية يعبرون عن آراء مدهشة لا يمكن أن يقبلها الدين أو الخلق الكريم، لمجرد التقرب من الجالسين علي قمة السلطة كالقول بأن مقاطعة الاستفتاء (لصالح الرئيس طبعاً)، هذه المقاطعة التي دعت إليها بعض عناصر المعارضة تعبيراً عن رفضها للتزوير، هي بمثابة كتمان للشهادة، وهو مما ينهي عنه الدين، ومن ثم فالممتنع عن الذهاب إلي الاستفتاء «آثم قلبه». وذهب آخر إلي أن الشباب الغرقي الذين كانوا يحاولون الهرب من مصر والالتجاء إلي شواطئ دولة أوروبية أملاً في الحصول علي فرص للعمل حرموا منها في مصر، لا يمكن اعتبارهم شهداء جزاؤهم الجنة، بل يؤكد أنهم طماعون جشعون فضلاً عن مخالفتهم قوانين البلاد التي يحاولون الذهاب إليها.
***
في هذا المناخ يميل بعض أصحاب المواهب الحقيقية من الراغبين في الإصلاح وتحقيق النهضة إلي الانسحاب أو الانزواء، إن لم يكن بالموت أو الشيخوخة، فبالقنوط والإحباط. ولكن يميل بعض المثقفين الموهوبين أيضاً إلي تغيير موقعهم فتنطفئ موهبتهم بسبب هذا التغيير، إذ ينشغلون بكتابة أشياء تافهة أو لا تعبر عما يشعرون به. وينتهز هذه الفرصة أعداد كبيرة من أنصاف الموهوبين أو عديمي الموهبة فيقفزون لاحتلال مراكز المحررين والكتاب ورئاسة تحرير الصحف والمجلات المملوكة للحكومة، فيكتبون كلاماً لا معني له، مما لا يكاد يقرؤه أحد أو يعبأ به أحد، بل إنهم هم أنفسهم لا يعبأون برأي الناس فيهم، إذ إنهم في الحقيقة لا يوجهون كلامهم إلا للممسكين بالسلطة، يريدون به تأكيد ولائهم، واستحقاقهم لمناصبهم.